تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

أَصْبَحَ ماؤُكُمْ) أي : الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة (غَوْراً) أي : غائرا ذاهبا في الأرض لا تناله الدلاء وكان ماؤهم من بئرين بئر زمزم وبئر ميمونة (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ) على ضعفكم حينئذ وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم (بِماءٍ مَعِينٍ ،) أي : دائم لا ينقطع وظاهر للأعين سهل المأخذ ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بماء معين أي : ظاهر تراه العيون فهو مفعول. وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر فهو على هذا فعيل ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا أن المعنى : فمن يأتيكم بماء عذب أي : لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم؟!

ويستحب أن يقول القارىء عقب معين : الله رب العالمين ، كما في الحديث. وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال : تأتي به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه وعمي نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل يوم القيامة فأخرجته من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك» (١). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بسورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال : هي المانعة من عذاب الله ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب» (٢). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن» (٣). وأما ما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر» (٤) فحديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٤٠٠ ، والترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٩١ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٧٨٦.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٠٥.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٧٥٣ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٠٥.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٨٨.

٣٨١

سورة ن وتسمى القلم

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم : من أولها إلى قوله تعالى : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : (يَعْلَمُونَ) مدني ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : (مِنَ الصَّالِحِينَ) مدني ، وباقيها مكي ، قاله الماوردي.

وهي اثنتان وخمسون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة فهو بكل شيء عليم (الرَّحْمنِ) الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم (الرَّحِيمِ) الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه صراطه المستقيم. وقوله تعالى :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

(ن) كقوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ) [ص : ١] وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.

واختلفوا في تفسير ذلك ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي ، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : (ن) الآية» (١).

واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل : يهموت ، وقال الواقدي : ليوثا ، وقال كعب : لوثا ، وقال علي : تلهوت ، وقال الرواة : لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عز

__________________

(١) انظر الطبري في تفسيره ٢٩ / ١٤.

٣٨٢

وجل من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه ، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا ، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر ، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه : فتكن في صخرة ولم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر ، والبحر على متن الريح ، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار : كوني فكانت.

قال كعب الأحبار : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه فقال له : أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك ، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها ، فأذن الله تعالى لها فخرجت ، فو الذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت.

وقال بعضهم : نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون : الدواة ، وهو مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال القرطبي : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» (١). ومنه قول الشاعر (٢) :

إذا ما الشوق برح بي إليهم

ألقت النون بالدمع السجام

ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة ، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة ، وقيل : النون : لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعا ، وقيل : النون : هو المداد الذي تكتب به الملائكة. وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر.

وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين.

وقال الزمخشري : هذا الحرف من حروف المعجم ، وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما ، فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين ، وإن كان علما فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنسا أن تجره وتنونه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل : ودواة (وَالْقَلَمِ) وإن كان علما أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث.

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٥ / ٤٤٨ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٧ / ٣١٨ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٥٤ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٥٣ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٦ / ٩٢.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٨٣

وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علما لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا. ه.

تنبيه : في القلم المقسم به قولان : أحدهما : أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٥] ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق ، قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ـ ٤] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر ، والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما : أول ما خلق الله تعالى القلم ، ثم قال له : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة قال : ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.

وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال : اكتب المقدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه ، قال ابن عادل : قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ، لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حيا عاقلا فيؤمر وينهى ، فإن الجمع بين كونه حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محال ، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٧] فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة ، ا ه.

وقوله : فإن الجمع إلى قوله : محال ، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقال الزمخشري : أقسم بالقلم تعظيما له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف.

وقيل : القلم المذكور ههنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه روي في الأخبار : أول ما خلق الله تعالى القلم ، وفي خبر آخر : «أول ما خلق الله تعالى العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إليّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته» (١). وفي خبر آخر : أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض ، قالوا : وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض ، وقال البغوي : القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض ، ويقال : أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال : اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.

وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام.

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٤٥٨ ، ٤٧٤ ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٣ / ٤٠.

٣٨٤

(وَما يَسْطُرُونَ) أي : الملائكة من الخير والصلاح ، وقيل : وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم ، وقيل : ما يكتبون ، أي : الناس ويتفاهمون به ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ومعنى (وَما يَسْطُرُونَ :) وما يعملون ، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة ، وقال البقاعي : وما يسطرون ، أي : قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم.

وقوله تعالى : (ما أَنْتَ) أي : يا أعلى المتأهلين لخطابنا (بِنِعْمَةِ) أي : بسبب إنعام (رَبِّكَ) أي : المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة (بِمَجْنُونٍ) جواب القسم ، وهو نفي ، قال الزجاج : أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال : أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ، وقال البغوي : ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون ، أي : إنك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة ، وقيل : بعصمة ربك ، وقيل : هو كما يقال : ما أنت بمجنون والحمد لله ، وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربك كقولهم : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أي : والحمد لك.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غبارا ، فقالت له : ما لك فذكر جبريل عليه‌السلام وأنه قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] فهو أول ما نزل من القرآن قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إلي محمدا فأرسلته ، فقال : هل أمرك جبريل عليه‌السلام أن تدعو أحدا ، قال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ثم مات قبل دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه مجنون ، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة.

وقال ابن عباس : أول ما نزل قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي ، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجنون به شيطان وهو قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] ، أي : برحمة ربك والنعمة ههنا الرحمة ، وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة ، وقال القرطبي : يحتمل أن النعمة ههنا قسم تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم.

وقال الرازي : إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث :

__________________

(١) أخرجه ابن راهويه في مسنده ٢ / ٣١٦.

٣٨٥

الأولى : نفي الجنون عنه ، ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم المحسوسة ظاهرة ووجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على أن هذه الدقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم مجنون.

الصفة الثانية : قوله تعالى : (وَإِنَّ لَكَ) أي : على ما تحملت من أثقال النبوة وعلى صبرك عليهم فيما يرمونك به وهو تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَأَجْراً) أي : ثوابا (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : مقطوع ولا منقوص في دنيا ولا آخرة ، يقال : مان الشيء إذا ضعف. ويقال : مننت الحبل إذا قطعته ، وحبل منين إذا كان غير متين ، قال لبيد (١) :

غبسا كواسب لا يمنّ طعامها

أي : لا يقطع ، يصف كلابا ضارية. ونظيره قوله تعالى : (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : غير ممنون ، أي : غير محسوب عليك. قال الزمخشري : لأنه ثواب تستحقه على عملك وليس بتفضل ابتداء وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال ، انتهى. وهذا قول المعتزلة ، فإن الله تعالى لا يجب عليه شيء. وقال الحسن : غير مكدر بالمن. وقال الضحاك رضي الله تعالى عنه : أجرا بغير عمل. واختلفوا في هذا الأجر على أي شيء حصل ، فقيل : معناه ما مرّ وقيل : معناه أنّ لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجرا عظيما دائما ، وقيل : إن لك في إظهار النبوة والمعجزات وفي دعاء الخلق إلى الله تعالى ، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعنك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم ، فإن لك بسببه المنزلة العالية.

الصفة الثالثة : قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) استعظم خلقه لفرط احتمال الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم ، قال ابن عباس ومجاهد : على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى ، ولا أرضى عنده منه ، وروى مسلم عن عائشة : «أنّ خلقه كان القرآن» (٢). وقال علي : هو أدب القرآن ، وقيل : رفقه بأمته وإكرامه إياهم ، وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من الله وينتهي عنه بما نهى الله تعالى عنه ، وقيل : إنك على طبع كريم ، وقيل : هو الخلق الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩].

وقال الماوردي : حقيقة الخلق في اللغة ما يأخذه الإنسان في نفسه من الأدب ، سمي خلقا لأنه يصير كالخلقة فيه ، فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم ، فيكون الخلق الطبع المتكلف والخيم الطبع الغريزي.

__________________

(١) صدره :

لمعفّر قهد تنازع شلوه

والبيت من الكامل ، وهو للبيد في ديوانه ص ٣٠٨ ، ولسان العرب (قهد) ، (عفر) ، (منن) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٥٧ ، ١٣ / ٣٤٨ ، وتاج العروس (قهد) ، (عفر) ، (منن) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٦٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ٣٨٤ ، وديوان الأدب ١ / ١٠٤ ، وكتاب الجيم ٣ / ١١٦.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٧٤٦ ، وأحمد في المسند ٦ / ٥٤ ، ٩١ ، ١٦٣ ، ١٨٨ ، ٢١٦.

٣٨٦

قال القرطبي : ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال ، وسئلت أيضا عن خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فقرأت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى عشر آيات» (١). قال الرازي : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية الشريفة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب ، وإلى كل ما يتعلق به وكانت شديدة التعري عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة وقالت : «ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ولذلك قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه الحظ الأوفر» (٢).

وقال الجنيد : سمي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» (٣). وعن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن الناس وجها ، وأحسن الناس خلقا ، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير» (٤). وعن أنس بن مالك قال : «خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته : لم صنعته ، ولا لشيء تركته : لم تركته ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحسن الناس خلقا ، ولا مسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا شممت مسكا ولا عنبرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٥). وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا ، وكان يقول : خياركم أحسنكم أخلاقا» (٦). وعن أنس «أن امرأة عرضت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق من طرق المدينة ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك قال : ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قضيت حاجتها» (٧). وعن أنس بن مالك قال : «كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنطلق به حيث شاءت» (٨). وعن أنس أيضا : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صافح رجلا لم ينزع يده حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له» (٩). وعن عائشة قالت : «ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى ، ولا ضرب خادما ولا امرأة» (١٠). وعنها قالت : «ما خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمرين قط إلا اختار

__________________

(١) أخرجه النسائي في السنن الكبرى ٦ / ٤١٢.

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٢٧.

(٣) أخرجه البغوي في تفسيره ٢ / ٣٢٨ ، وشرح السنة ١٣ / ٢٠٢ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٧٧٠.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٤٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٣٧.

(٥) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٢٣٢٩ ، والترمذي في البر حديث ٢٠١٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٠٠ ، ٢٢٢ ، ٢٢٨.

(٦) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠٢٩ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٢١ ، والترمذي في البر حديث ٢٠١٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦١ ، ١٨٩ ، ١٩٣ ، ٣٢٨ ، ٤٤٨ ، ٦ / ١٧٤ ، ٢٣٦ ، ٢٤٦.

(٧) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٨١٨.

(٨) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠٧٢.

(٩) أخرجه بنحوه ابن ماجه في الأدب باب ٢١ ، وابن الجعد في مسنده ١ / ٤٩٤.

(١٠) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٢٣٢٨ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٨٦ ، وابن ماجه في النكاح حديث ١٩٨٤ ، والدارمي في النكاح باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٢٩ ، ٢٣٢.

٣٨٧

أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم» (١). وعن أنس قال : «كنت أمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضحك وأمر له بعطاء» (٢).

وعنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له : أبو عمير وهو فطيم كان إذا جاءنا قال : يا أبا عمير ما فعل النغير ، لنغير كان يلعب به» (٣). والنغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار. وعن الأسود قال : «سألت عائشة : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل في بيته؟ قالت : كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ ويخرج إلى الصلاة» (٤). والمهنة : الخدمة ، وعن عبد الله بن الحارث قال : «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٥).

وعن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذيء» (٦). وعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : أتدرون أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفرج والفم ، أتدرون أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق» (٧).

وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن المؤمن يدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار» (٨).

(فَسَتُبْصِرُ) أي : فستعلم عن قرب بوعد لا خلف فيه علما أنت في تحققه كالمبصر بالحس الباصر (وَيُبْصِرُونَ) أي : يعلم الذين رموك بالبهتان علما هو كذلك. وقوله تعالى : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون فزيدت كزيادتها في نحو :

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب ٢٥٦٠ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٨٥ ، ومالك في حسن الخلق حديث ٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٢ ، ١١٤ ، ١١٦ ، ١٣٠ ، ١٨٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٩ ، ٢٣٢ ، ٢٦٢ ، ٢٨١.

(٢) أخرجه البخاري في الخمس حديث ٣١٤٩ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠٥٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢١٠ ، ٢٢٤.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٢٠٣ ، ومسلم في الآداب حديث ٢١٥٠ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٩٦٩ ، والترمذي في الصلاة حديث ٣٣٣ ، وابن ماجه في الأدب باب ٢٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١٥ ، ١١٩ ، ١٧١ ، ١٨٨ ، ١٩٠ ، ٢٠١ ، ٢١٢ ، ٢٢٣ ، ٢٧٨ ، ٢٨٨.

(٤) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٧٦ ، والترمذي في القيامة باب ٤٥ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٩ ، ١٢٦ ، ٢٠٦.

(٥) أخرجه الترمذي في المناقب حديث ٣٦٤١ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٩٠ ، ١٩١.

(٦) أخرجه الترمذي في البر حديث ٢٠٠٢ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٩٩.

(٧) أخرجه الترمذي في البر حديث ٢٠٠٤ ، وابن ماجه في الزهد باب ٢٩ وأحمد في المسند ٢ / ٢٩١ ، ٤٤٢.

(٨) أخرجه أبو داود في الأدب حديث ٤٧٩٨ ومالك في حسن الخلق حديث ٦.

٣٨٨

بحسبك زيد ، وإلى هذا ذهب قتادة ، قال ابن عادل : إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في حسبك فقط.

الثاني : أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك : زيد بالبصرة ، أي : فيها ، والمعنى : في أي فرقة وطائفة منكم ، المفتون أي : المجنون أفي فرقة الإسلام ، أم في فرقة الكفر؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء.

الثالث : أنه على حذف مضاف ، أي : بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإليه ذهب الأخفش وتكون الباء سببية.

الرابع : أنّ المفتون مصدر جاء على مفعول كالمقتول والميسور ، والتقدير : بأيكم الفتنة ، وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] ، أي : يعذبون ، وقيل : الشيطان لأنه مفتون في دينه وكانوا يقولون : إنه به شيطان وعنوا بالمجنون هذا ، فقال تعالى : سيعلمون غدا بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.

فائدة : (بِأَيِّكُمُ) رسمت ههنا بياءين.

(إِنَّ رَبَّكَ) أي : الذي رباك أحسن تربية وفضلك على سائر الخلائق (هُوَ) أي : وحده (أَعْلَمُ) أي : من كل أحد (بِمَنْ ضَلَ) أي : حاد (عَنْ سَبِيلِهِ) أي : دينه وسلك غير سبيل القصد وأخطأ موضع الرشد (وَهُوَ) أي : وحده (أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : الثابتين على الهدى ، وهم أولوا الأحلام والنهى ، أي : لذو علم بمعنى عالم.

تنبيه : قوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ وَهُوَ مَكْظُومٌ وَهُوَ مَذْمُومٌ) قرأه قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بضمها وقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي : العريقين في التكذيب وهم مشركو مكة ، فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم ، ينتج التصميم على معاداتهم.

(وَدُّوا) أي : تمنوا وأحبوا محبة واسعة متجاوزة للحدّ قديما مع الاستمرار على ذلك (لَوْ) مصدرية (تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال الضحاك : لو تكفر فيكفرون. وقال الكلبي : لو تلين لهم فيلينون لك. وقال الحسن : لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وقال زيد بن أسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقال ابن قتيبة : أرادوا أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدون الله مدة. وقال ابن العربي : ذكر المفسرون في ذلك نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة ، والمعنى وأمثلها : ودّوا لو تكذب فيكذبون ، ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال القرطبي : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى.

تنبيه : في رفع فيدهنون وجهان : أحدهما : أنه عطف على تدهن فيكون داخلا في حيّز لو ، والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهم يدهنون. وقال الزمخشري : فإن قلت لم رفع فيدهنون ، ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني ، قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) [الجن : ١٣] على معنى : ودّوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ أو ودّوا ادهانك ، فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.

واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ،) أي : كثير الحلف بالباطل ،

٣٨٩

فقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا وحلف له أن يعطيه إن رجع عن دينه ، وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام. وقال عطاء : هو الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة فلذلك سمي زنيما ، وقال مجاهد : هو الأسود بن عبد يغوث. (مَهِينٍ ،) أي : ضعيف حقير. قيل : هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس : كذاب وهو قريب من الأول ، لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه. وقال الحسن وقتادة : هو المكار في الشر ، وقال الكلبي : المهين العاجز.

(هَمَّازٍ) أي : كثير العيب للناس في غيبتهم. وقال الحسن : هو الذي يغمز بأخيه في المجلس. وقال ابن زيد : الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللماز باللسان. وقيل : الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم ، واللماز الذي يذكرهم في غيبتهم وقال مقاتل : بالعكس ، وقال مرّة : هما سواء ، ونحوه عن ابن عباس وقتادة. (مَشَّاءٍ) أي : كثير المشي (بِنَمِيمٍ) أي : فتان يلقي النميمة بين الناس ليفسد بينهم فينقل ما قاله الإنسان في آخر ، وإذاعة سر لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد البين مبالغ في ذلك.

(مَنَّاعٍ) أي : كثير المنع شديده (لِلْخَيْرِ) أي : كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه وغيره من الدين والدنيا ، وقال ابن عباس : مناع للخير ، أي : الإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام وكان له عشرة من الولد يقول : لئن دخل أحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. (مُعْتَدٍ) أي : ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك (أَثِيمٍ ،) أي : مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ، ويأخذ الخبائث يرغب في المعاصي ويتطلبها ويدع الطاعات ويزهد فيها.

(عُتُلٍ) العتلّ : الغليظ الجافي. وقال الحسن : هو الفاحش الخلق السيء الخلق. وقال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الكلبي : هو الشديد في كفره ، وكل شديد عند العرب عتلّ وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف ، وقال أبو عبيدة بن عمير : العتل : الأكول الشروب القوي الشديد الذي لا يزن في الميزان شعيرة ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا دفعة واحدة (بَعْدَ ذلِكَ) أي : مع ذلك ، يريد مع ما وصفناه به. (زَنِيمٍ) وهو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم ، وقال عطاء عن ابن عباس : يريد مع هذا هو دعي في قريش ، وقال مرّة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشر سنة ، وقيل : الزنيم الذي له زنمة كزنمة الشاة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية نعت ، فلم يعرف حتى قيل : زنيم فعرف وكانت زنمة في عنقه يعرف بها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال مجاهد : زنيم كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة ، وقال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله تعالى وصف أحدا ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.

وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو يقسم على الله لأبره ، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» (١). وفي

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٨ ، باب ١ ، والأيمان باب ٩ (حديث ٦٦٥٧) ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٥٣ ، والترمذي في جهنم باب ١٣ ، وابن ماجه في الزهد باب ٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٩ ، ٢١٤ ، ٣ / ١٤٥ ، ٤ / ١٧٥ ، ٣٠٦.

٣٩٠

رواية : «كل جواظ زنيم متكبر» (١). الجواظ : الجموع المنوع ، وقيل : الكثير اللحم المختال في مشيته ، وقيل : القصير البطين ، وقال عكرمة : هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم ، وكان الوليد دعيا في قريش ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قال الشاعر فيه (٢) :

زنيم ليس يعرف من أبوه

بغي الأمّ ذو حسب لئيم

قيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية ، وهذا لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة ولد زنا ولا ولده ولا ولد ولده» (٣). وقال عبد الله بن عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أولاد الزنا يحشرون يوم القيامة في صور القردة والخنازير» (٤). ولعل المراد به الدخول مع السابقين ، وإلا فمن مات مسلما دخل الجنة ، وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشى فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذابه» (٥). وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنا قحط المطر. قال القرطبي : ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدنّ أحد تحت برمة ألا لا يزجين أحد بكراع ، ألا من أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا وأكثر ، ولا يعطي المسكين درهما واحدا وقيل : مناع للخير ، وفيه نزل (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ـ ٧].

ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضا فانيا وظلا متقلصا زائلا لا يفتخر به ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف ، فإذا كان ذلك أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع على الحقوق والتكبر على العباد ، قال الله تعالى : (أَنْ) أي : لأجل أن (كانَ) أي : هذا الموصوف (ذا مالٍ) أي : مذكور بالكثرة (وَبَنِينَ) أنعمنا عليه بهما ، فصار يطاع لأجلهما ، فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما. (إِذا تُتْلى) أي : تذكر على سبيل المتابعة (عَلَيْهِ) ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له (آياتُنا) أي : العلامات الدالة دلالة هي في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ما له من صفات العظمة (قالَ) أي : مفاجأة من غير تأمل ولا توقف عوضا عن شكرنا (أَساطِيرُ) جمع سطور جمع سطر (الْأَوَّلِينَ) أي : أشياء سطروها ودونوها وفرغوا منها ، فحمله دنيء طبعه على تكثره بالمال ، فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه ، فجعل الكفر موضع الشكر ، ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من سمعه ، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر ، فكان هذا دليلا على جميع تلك الصفات السابقة ، مع التعليل بالاستناد إلى ما هو عند العاقل أو هى من بيت العنكبوت ، والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة.

وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية ، وشعبة وحمزة

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٥٣.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٣٠٩٥ ، ٤٣٩٠٧ ، ٤٣٩٩٧ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٢ / ٣٠٨ ، والبخاري في التاريخ الكبير ٢ / ٢٥٧.

(٤) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٣٤ ، والعقيلي في الضعفاء ٢ / ٧٥ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٣ / ١٥٦.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٣٣٣.

٣٩١

بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفا والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي : فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين ، فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على (زَنِيمٍ) ويبتدىء (أَنْ كانَ) على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين ، ويجوز أن يكون التقدير : ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ودل عليه ما تقدم من الكلام ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام ، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله ، والعامل فيه فعل مضمر ، والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين ، ودل على هذا الفعل (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال ، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها ؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال : جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط ، فيصير مقدما مؤخرا في حال واحد.

ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم ، لأن المعنى : لأن كان ذا مال كان ، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره : يجوز أن تتعلق بقوله تعالى : (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) والتقدير : يشمي بنميم لإن كان ذا مال وبنين ، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أباطيلهم وترهاتهم.

(سَنَسِمُهُ) أي : نجعل له سمة ، أي : علامة يعرف بها (عَلَى الْخُرْطُومِ) أي : الأنف يعير بها ما عاش ، قال ابن عباس : سنسمه سنخطمه بالسيف ، قال : وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف ، فلم يزل مخطوما إلى أن مات ، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة : سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي : سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد : سنسمه على الخرطوم ، أي : على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] فهي علامة ظاهرة (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [طه : ١٠٢] وهذه علامة أخرى ظاهرة.

وأفادت هذه الآية علامة ثالثة : وهي الوسم على الأنف بالنار ، وهذا كقوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) [الرحمن : ٤١] قال القرطبي : والخرطوم الأنف من الإنسان ، ومن السباع موضع الشفة ، وخراطيم القوم ساداتهم. قال الفراء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه ، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال القرطبي : بين أمره تبيانا واضحا فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم ، وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة ، ولا شك أن المبالغة العظيمة في ذمّة بقيت على وجه الدهر ، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه ، فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل : ما ابتلاه الله تعالى به في الدنيا في نفسه وأهله وماله من سوء وذل وصغار. وقال النضر بن شميل : المعنى : سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم الخمر وجمعه خراطيم. قال : الرازي كالزمخشري وهذا تعسف ا ه. وقيل للخمر : الخرطوم كما قيل لها : السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم.

تنبيه : الأنف أكرم موضع في الوجه لتقديمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا

٣٩٢

منه الأنفة ، وقالوا : الأنف في الأنف وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين ، وقالوا في الذليل : جدع أنفه ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها» (١).

ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩))

(إِنَّا) أي : بما لنا من القهر والعظمة (بَلَوْناهُمْ) أي : عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أكلوا الجيف (كَما بَلَوْنا) أي : اختبرنا (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر.

وحاصله : أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلم الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء ، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له : الضروان يطؤه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، وكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن ذوو عيال ، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : (إِذْ) أي : حين (أَقْسَمُوا) ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال : (لَيَصْرِمُنَّها) عبر به عن الجذاذ لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع ، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها والناقة القليلة اللبن (مُصْبِحِينَ) داخلين في أول وقت الصباح لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها.

(وَلا) أي : والحال أنهم لا (يَسْتَثْنُونَ) في يمينهم ، أي : ولا يقولون : إن شاء الله.

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٧٦.

٣٩٣

فإن قيل : لم سمي استثناء وإنما هو شرط؟ أجيب : بأنه سمي استثناء لأنه إخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولا ، وكان الأصل فيه إلا أن يشاء الله فألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم.

(فَطافَ) أي : فتسبب عن فعلهم هذا أن طاف (عَلَيْها) أي : جنتهم (طائِفٌ) أي : عذاب مهلك محيط وهو نار أحرقتها ليلا لم تدع منها شيئا ، والطائف غلب في الشر. وقال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلا ورد عليه بقوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) [الأعراف : ٢٠١] وذلك لا يختص بليل ولا نهار ، وقوله تعالى : (مِنْ رَبِّكَ) يجوز أن يتعلق بطاف وأن يتعلق بمحذوف صفة لطائف (وَهُمْ) أي : والحال أن أصحاب الجنة المقسمين (نائِمُونَ) وقت إرسال الطائف.

(فَأَصْبَحَتْ) أي : فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مال من لا يزال أسير العجز والنوم فعلا أو قوة (كَالصَّرِيمِ) أي : كالأشجار التي صرم عنها ثمرها ، أو كالليل المظلم الأسود لأنه يقال : الصريم لسواده والصريم أيضا النهار ، وقيل : الصبح لأنه انصرم من الليل ، قاله الأخفش. وهو من الأضداد. وقيل : كالرماد الأسود ليس بها ثمرة بلغة خزيمة ، قاله ابن عباس ، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئا لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق لضدّ ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله. قال القرطبي : والآية دليل على أنّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظيره قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥].

وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (١) وهذا محمول على العزم المصمم ، أما ما كان يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي : في حال أول دخولهم في الإصباح وقوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا ،) أي : بكروا جدا مقبلين ومستولين وقادرين ، ويجوز أن تكون أن المفسرة لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول (عَلى حَرْثِكُمْ ،) أي : محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم ، قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : اغدوا على حرثكم يعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : صارمين لأنهم أرادوا قلع الثمار من الأشجار.

قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قال : اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول : غدا عليهم العدو. قال الزمخشري : ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال ، أي : فأقبلوا على حرثكم. (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي : مريدين القطع ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله ، أي : فاغدوا ، ويجوز أن تكون أن المصدرية ، أي : تنادوا بهذا الكلام.

تنبيه : مقتضى كلام الزمخشري أن غدا متعدّ في الأصل بإلى فاحتاج إلى تأويل فقدره بعلى ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٣١ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٨٨٨ ، والنسائي في التحريم حديث ٤١٢١ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٦٤.

٣٩٤

قال ابن عادل : وفيه نظر لورود تعديه بعلى في غير موضع كقوله (١) :

وقد أغدوا على ثبة كرام

نشاوى واجدين لما نشاء

وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بعلى فليعدوه ، وقرأ : أن اغدوا أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بضمها واتفقوا على الابتداء بالهمزة بالضم.

(فَانْطَلَقُوا) أي : فتسبب عن هذا الحث عقبه كأنهم كانوا متهيئين (وَهُمْ) أي : والحال أنهم (يَتَخافَتُونَ) أي : يقولون في حال انطلاقهم قولا هو في غاية السر ، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ، ومنه الخفدود للخفاش.

ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى : (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا) وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى ، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحدا يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذا يخلو من سائل (الْيَوْمَ) أي : في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مرارا وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعا يطمع فيه أحد في قصدكم (عَلَيْكُمْ) وأنتم بها (مِسْكِينٌ) وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم ، أي : لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا أرينك ههنا ، فقال لهم أوسطهم سنا وخيرهم نفسا وأعدلهم طبعا بما يدل عليه ما يأتي : لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم ، قال البقاعي : وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئا.

(وَغَدَوْا) أي : ساروا إليها غدوة (عَلى حَرْدٍ) أي : منع للمساكين. قال أبو عبيدة : على حرد ، أي : منع من حاردت الإبل حرادا ، أي : قل لبنها ، والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان : على حنق وغضب من المساكين ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : على قدرة (قادِرِينَ) عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد ، أي : بدليل عدم استثنائهم ، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلا عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة : على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة : على أمر مجتمع.

ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْها) أي : بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر (قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم ، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها ، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.

ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي : ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل ، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٧٢ ، ولسان العرب (ثوب) ، (ثبا) ، (نشا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ١٥٦ ، وتاج العروس (ثوب) ، (ثبى) ، (نشا).

٣٩٥

(قالَ : أَوْسَطُهُمْ) أي : رأيا وعقلا وسنا وفضلا منكرا عليهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أي : ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (تُسَبِّحُونَ) أي : تستثنون ، فكان استئناؤهم تسبيحا ، قال مجاهد وغيره : وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : هلا تسبحون الله ، أي : تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عزوجل ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى : تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي : التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء ، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحا ، وقيل : المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، قيل : إن القوم لما عزموا على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن.

(قالُوا) أي : من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم (سُبْحانَ رَبِّنا) أي : تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم ، وأكدوا قباحة فعلهم هضما لأنفسهم وخضوعا لربهم وتحقيقا لتوبتهم بقولهم : (إِنَّا كُنَّا) أي : بما في جبلاتنا من الفساد (ظالِمِينَ) أي : مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي : في الحال مبادرة في الخضوع (عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي : يلوم بعضهم بعضا يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال.

ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن (قالُوا) منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء (يا وَيْلَنا) أي : هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا ، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك ، والويل الهلاك والإشراف عليه (إِنَّا كُنَّا) أي : جبلة وطبعا (طاغِينَ) أي : عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان : طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.

ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا (عَسى رَبُّنا) أي : الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وإهلاك ثمرها الآن تأديبا لنا (أَنْ يُبْدِلَنا) من جنتنا شيئا (خَيْراً مِنْها) يقيم لنا أمر معايشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة ، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال (إِنَّا إِلى رَبِّنا) أي : المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد ، ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره (راغِبُونَ) أي : ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام. وقد قيل : إن الله تعالى قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان ، كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل ، رواه البغوي عن ابن مسعود ، وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم ، وقال الحسن : قول أهل الجنة (إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) لا أدري إيمانا كان ذلك منهم أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا

٣٩٦

أصابتهم الشدة فتوقف في كونهم مؤمنين ، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قال : لقد كلفتني تعبا ، والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري.

ولما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله تعالى ولم يجلهم بجلاله طوى ذكر ما أنعم به عليهم وذكر ما يخوفهم ، فقال تعالى مرهبا : (كَذلِكَ) أي : مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كان عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان لفعلهم والاستصواب ، وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب. (الْعَذابُ) أي : الذي نحذرهم منه ونخوفهم به في الدنيا ، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي : الذي يكون فيها للعصاة (أَكْبَرُ) أي : من كل ما يتوهمون (لَوْ كانُوا) أي : الكفار (يَعْلَمُونَ) أي : لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه.

ولما ذكر ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات ذكر تعالى أضدادهم ، فقال تعالى مؤكدا لأجل إنكارهم : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) أي : العريقين في صفة التقوى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم في موضع دوم أولئك وجنة آمالهم (جَنَّاتِ) جمع جنة وهي لغة : البستان الجامع ، وفي عرف الشرع : مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى عنه جميع الشرور (النَّعِيمِ) أي : جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.

قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا ، فلا بدّ وأن يفضلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ) أي : الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلبا لمرضاتنا ، فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم (كَالْمُجْرِمِينَ) أي : الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون بمثل هذا ، ففي ذلك إنكار لقول الكفرة ، فإنهم كانوا يقولون أيضا : إن صح أننا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا ، بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا.

وقوله تعالى : (ما لَكُمْ) أي : أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي : أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء مع التفاوت ، فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له وإشعار بأنه صادر عن اختلال فكر واعوجاج رأي.

(أَمْ) أي : بل أ(لَكُمْ كِتابٌ) أي : سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم (فِيهِ) أي : لا في غيره من أساطير الأولين (تَدْرُسُونَ) أي : تقرؤون قراءة أيقنتكم.

(إِنَّ لَكُمْ) أي : خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه (لَما تَخَيَّرُونَ) أي : ما تختارونه وتشتهونه ، وكسرت وكان حقها الفتح لو لا اللام لأن ما بعدها هو المدروس ، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ) أي : عهود ومواثيق (عَلَيْنا) قد حملتمونا إياها (بالِغَةٌ) أي : واثقة لأيمان ، وقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلق بما تعلق به لكم من الاستقرار ، أي : ثابتة لكم إلى يوم القيامة ، أي : مبالغة ، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقوله تعالى : (إِنَّ لَكُمْ لَما

٣٩٧

تَحْكُمُونَ) جواب القسم لأن معنى (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا) أي : أقسمنا لكم.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

ولما عجب منهم وتهكم بهم ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف فقال تعالى : (سَلْهُمْ) يا أشرف الرسل (أَيُّهُمْ بِذلِكَ) أي : الأمر العظيم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين (زَعِيمٌ) أي : كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل التزم في ادعائه صحة ذلك.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) موافقون لهم في هذا القول يكفلونه لهم فإن كانوا كذلك (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) أي : الكافلين لهم به (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي : عريقين في هذا الوصف كما يدعونه.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) منصوب بقوله تعالى : (فَلْيَأْتُوا) أي : فليأتوا بشركائهم يوم (يُكْشَفُ) أي : يحصل الكشف فيه ، بني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمر وخروجه عن حدّ الطوق لا كونه من معين ، مع أنه من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه وتعالى (عَنْ ساقٍ) أي : يشتدّ فيه الأمر غاية الاشتداد ، لأنّ من اشتدّ عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهنّ غير محتشمات فهو كناية عن هذا ، ولذلك نكره تهويلا له وتعظيما ، نقل هذا التأويل عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما ، وعن انكشاف جميع الخلائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها ، كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه ، فتركت السامع لها في مثل ضوء النهار ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار : اذكر فيكون على هذا مفعولا به وعلى الأول لا يوقف على صادقين.

تنبيه : علم مما تقرر أن كشف الساق كناية عن الشدة ، قال الراجز (١) :

عجبت من نفسي ومن إشفاقها

ومن طرادي الطير عن أرزاقها

في سنة قد كشفت عن ساقها

حمراء تبرى اللحم عن عراقها

وقال : الطائي (٢) :

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها

وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال : آخر (٣) :

قد شمرت عن ساقها فشدوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عرق) ، وتاج العروس (عرق).

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت لم أجده.

٣٩٨

وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل : كشف الأمر عن ساقه ، والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة ، وقال القرطبي : وأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه تعالى متعال عن الأعضاء والأبعاض وأن ينكشف ويتغطى ، ومعناه : أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل : يكشف عن نوره عزوجل ، وروى أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (عَنْ ساقٍ) قال : «يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا» (١) وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبو موسى قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم : ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون : إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال : أو تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : نعم فيقال : فكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا : إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون الله تعالى فيخرون له سجدا ، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ)(٢).

(وَيُدْعَوْنَ) أي : من داعي الملك الديان (إِلَى السُّجُودِ) توبيخا على تركه الآن وتنديما وتعنيفا لا تعبدا وتكليفا ، فيريدونه ليفدوا أنفسهم مما يرون من المخاوف (فَلا) أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا (يَسْتَطِيعُونَ) لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم فيقول الله تعالى أي : للساجدين : عبادي ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلا من اليهود والنصارى في النار ، قال أبو بردة : فحدثت هذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال لي : والله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث ، فحلف له ثلاثة أيمان فقال : ما سمعت في أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا الحديث ، وأما غير الساجدين فعن ابن مسعود تعقم أصلابهم ، أي : ترد عظامها بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض ، وفي الحديث وتبقى أصلابهم طبقا واحدا ، أي : فقارة واحدة.

وقوله تعالى : (خاشِعَةً) حال من مرفوع يدعون وقوله تعالى : (أَبْصارُهُمْ) فاعل به ونسب الخشوع للأبصار ، لأنّ ما في القلب يعرف في العين وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أضوأ من الشمس ، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة. (تَرْهَقُهُمْ) أي : تغشاهم (ذِلَّةٌ) أي : عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها الله سبحانه ليتقرّبوا بها إليه في دار العمل في غير طاعته (وَقَدْ) أي : والحال أنهم قد (كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي : في الدنيا من كل داع يدعو إلينا ، وقال إبراهيم التيمي : أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقوله تعالى : (وَهُمْ سالِمُونَ) أي : معافون أصحاء ، حال من مرفوع يدعون الثانية. وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجبيبون ، وقال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.

ولما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف بما عنده وفي قدرته فقال تعالى لنبيه

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٤٩ ، بلفظ : «يكشف عن قدر عظيم يخرون له سجدا».

(٢) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٢٤٩.

٣٩٩

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَذَرْنِي) أي : اتركني على أيّ حالة اتفقت (وَمَنْ يُكَذِّبُ) أي : يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أيّ حالة كان إيقاعه ، وأفرد الضمير نصا على تهديد كل واحد من المكذبين (بِهذَا الْحَدِيثِ) أي : القرآن ، أي : خل بيني وبينهم لا تشغل قلبك به ، فإني أكفيك أمره لأنه لا مانع منه فلا تهتم به أصلا.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي : سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة إلى عذاب لا شك فيه (مِنْ حَيْثُ) أي : من جهات (لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات فعذبوا يوم بدر ، وقال أبو روق : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر ، وقال الحسن : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرور بالستر عليه ، وقال ابن عباس : سنمكر بهم ، وروي أن رجلا من بني إسرائيل قال : يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له : كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر أن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت ، والاستدراج ترك المعاجلة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج ، ومنه قيل : درجات وهي منزلة بعد منزلة واستدرج فلان فلانا ، أي : استخرج ما عنده قليلا قليلا ، ويقال : درجه إلى كذا واستدرجه معناه : أدناه منه على التدريج فتدرج. ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة والواقع سبب لهلاكهم.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) أي : أمهلهم وأطيل المدة كقوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] والملاوة المدة من الدهر وأملى الله له ، أي : أطال له ، والملوان الليل والنهار. وقيل : لا أعاجلهم بالموت. والمعنى واحد ، والملا مقصورا الأرض الواسعة سميت بها لامتدادها (إِنَّ كَيْدِي) أي : ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان (مَتِينٌ) أي : قويّ شديد فلا يفوتني أحد ، وسمي إحسانه كيدا كما سماه استدارجا لكونه في صورة الكيد ، ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في التسبب للهلاك.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ) أي : أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همما (أَجْراً) على تبليغ الرسالة (فَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم (مِنْ مَغْرَمٍ) أي : غرامة كلفتهم بها (مُثْقَلُونَ) أي : ثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال فثبطهم ذلك عن الإيمان. والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.

(أَمْ عِنْدَهُمُ) أي : خاصة (الْغَيْبُ) أي : علمه عن اللوح المحفوظ أو غيره (فَهُمْ) أي : بسبب ذلك (يَكْتُبُونَ) أي : ما يريدون منه ليكونوا قد أطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله ، أو أنهم لا درك عليهم في التكذيب به فقد علم من هذا أنهم لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة ، وإنما كيدهم مجرد خبث طباع وظلمة نفوس وأماني فارغة وأطماع.

(فَاصْبِرْ) أي : أوقع الصبر وأوجده على كل ما يقولونه فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيرهم من ممر القضاء (لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي : القضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومدّ لهم على ذلك في الأجل ، وأسبغ عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر. وقال ابن بحر : فاصبر لنصر ربك ، وقيل : إن ذلك منسوخ بآية السيف. وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمره

٤٠٠